الدرس السادس والعشرون : غزوة الطائف / بعد حنين

الدرس السادس والعشرون : غَزْوَةُ الطَّائِفِ – بَعْدَ حُنَينٍ

 

جُمِعَتْ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعْرَانَةِ ، فَحُبِسَتْ بِهَا .

وَكَانَ فَلُّ (1) ثَقِيفٍ قَدِمُوا الطَّائِفَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا، وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ . فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ؛ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَكَانَتْ النَّبْلُ تَنَالُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ؛ فَلَمَّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الَّذِي بِالطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً .

وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى بَيْنَ الْقُبَّتَيْنِ . ثُمَّ أَقَامَ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا .

فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ. وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمَّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطَّائِفِ عَبِيدٌ، فَأَسْلَمُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ .

ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ عَن الطَّائفِ بَعْدَ الْحِصَارِ والْقِتَالِ , فَفِي الصَّحِيحَين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَالَ إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ وَقَالَ مَرَّةً نَقْفُلُ فَقَالَ اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ فَقَالَ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَعْجَبَهُمْ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ الطَّائِفِ حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُدْعُ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ .

فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ , وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتَّةُ آلَافٍ مِنْ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ، وَمِنْ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ مَا لَا يُدْرَى مَا عِدَّتُهُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ . قَالَ : وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ، يُكْنَى أَبَا صُرَدٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ، أَوْ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنَّا بِمِثْلِ الَّذِي نَزَلْتُ بِهِ، رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ عَلَيْنَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟

فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا، بَلْ تَرُدُّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا فَقَالَ لَهُمْ : أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا مَا أَنَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ بِالنَّاسِ، فَقُومُوا فَقُولُوا : إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ .

فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فَتَكَلَّمُوا بِاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ .

فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ : أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا . وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ : أَمَا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ : أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا . فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلَى، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قَالَ : يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ : وَهَّنْتُمُونِي .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ مِنْ هَذَا السَّبْي, فَلَهُ بِكُلِّ إنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ، مِنْ أَوَّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ، فَرَدُّوا إلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ .

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ هَوَازِ نَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ ؟ فَقَالُوا : هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنَّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِئَةً مِنْ الْإِبِلِ . فَأَتَى مَالِكٌ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الطَّائِفِ . وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَيَحْبِسُوهُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيِّئَتْ لَهُ، وَأَمَرَ بِفَرَسِ لَهُ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطَّائِفِ، فَخَرَجَ لَيْلًا، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ، فَرَكَضَهُ حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ، فَرَكِبَهَا، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكَّةَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِئَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ: ثُمَالَةُ، وَسَلِمَةُ، وَفَهْمٌ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إلَّا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَدِّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إلَى أَهْلِهَا، رَكِبَ، وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئًا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إلَى شَجَرَةٍ، فَاخْتَطَفَتْ عَنْهُ رِدَاءَهُ، فَقَالَ : أَدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَاَللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا . ثُمَّ قَامَ إلَى جَنْبِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا، ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، وَاَللَّهِ مَالِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةُ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ . فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ الْكُبَّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرَ، فَقَالَ : أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ . قَالَ : أَمَّا إذْ بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَتَأَلَّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ مِئَةَ بَعِيرٍ, وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِئَةَ بَعِيرٍ, وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِئَةَ بَعِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ وَأَعْطَى دُونَ الْمِئَةِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَا أَحْفَظُ مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهَا دُونَ الْمِئَةِ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنَ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى السَّهْمِيَّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ مِقْسَمِ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ : خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللَّيْثِيُّ، حَتَّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، مُعَلِّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ : هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟

قَالَ : نَعَمْ، جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتُ ؟

فَقَالَ : لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ .

قَالَ : فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ : وَيْحَكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ ؟

فَقَالَ : لَا، دَعْهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ؛ يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفِدْحِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفُوقِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ (3) .

قُلْتُ : وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ( ابْنِ مَسْعُودٍ ) قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا فِى الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْقِسْمَةِ .

فَقَالَ رَجُلٌ : وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ .

قَالَ : فَقُلْتُ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ , قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ (4)

ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

قَالَ : ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ .

قَالَ : قُلْتُ لاَ جَرَمَ لاَ أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا (5) .

فَضْلُ الأنْصَارِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَالَ : لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ , وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ , حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقَدْ لَقِيَ وَاَللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ قَوْمَهُ .

فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ.

قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إلَّا مِنْ قَوْمِي .

قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ .

قَالَ : فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ . قَالَ : فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ . فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ : قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ :

يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ , مَا قَالَةٌ، بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟

أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ؟

قَالُوا : بَلَى، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ .

ثُمَّ قَالَ : أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟

قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ .

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ : أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ .

أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا , وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟

فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ. وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ.

قَالَ : فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالَُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قَسْمًا، وَحَظًّا .

ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ، بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَخَلَّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ، وَاتُّبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ .

وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ .

وَحَجَّ النَّاسُ تِلْكَ السَّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَهِيَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ، مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .

قِصَّةُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

قَالَ ابنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ، اتَّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، حَتَّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُهُ : إنَّهُمْ قَاتَلُوكَ . وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ رَجَاءَ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ، لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ؛ فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عَلِيَّةٍ لَهُ، وَقَدْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ، رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَقِيلَ لِعُرْوَةِ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ ؟

قَالَ : كَرَامَةٌ أَكَرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قَتَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ، فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ (6) .

ثُمَّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا، ثُمَّ إنَّهُمْ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا .

قُلْتُ : فَوَفَدُوا عَلَي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُعْلِنينَ إسْلامَهُم , وَاشْتَرَطُوا شُرُوطَاً ؛ فَفِي سُنَنِ أبِي دَاوُدَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُحْشَرُوا وَلاَ يُعْشَرُوا وَلاَ يُجَبُّوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَكُمْ أَنْ لاَ تُحْشَرُوا وَلاَ تُعْشَرُوا وَلاَ خَيْرَ فِى دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ (7) .

وَفيهِ أيْضاً عَنْ وَهْبٍ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ شَأْنِ ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ قَالَ اشْتَرَطَتْ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلاَ جِهَادَ , وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا (8) .

وَفِي مُسْنَدِ الإمَامِ أَحْمَدَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فَقُلْنَا إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الطُّهُورِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الدُّبَّاءِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فِيهِ سَاعَةً وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ فَأَبَى وَقَالَ هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ وَطَلِيقُ رَسُولِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَاصَرَ الطَّائِفَ فَأَسْلَمَ (9) .

الأمِيرُ العَفِيفُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ رَزَقَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، أَجَاعَ اللَّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ، فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ .

 

ــــــــــ

الحاشية:

(1) الفَل: الجماعة المنهزمون من الجيش .

(2) صحيح البخاري ( 4325 ) , وصحيح مسلم ( 1778 )

(3) هذا مَثَلٌ ضَرَبَه النبي صلى الله عليه وسلم على شدة مروق الخوارج من الدين , فهم كالسهم يمرق من الرَّمية فلا يَعْلق فيه شيء من دمها, من شدة الضربة وسرعة نفوذها . والقِدْح : السهم قبل أن يُنصَّل ويُراش . والفُوق : موضع الوتر من السهم .

(4) الصِّرف : شجر أحمر يصنع منه صبغ يدبغ به الجلود

(5) صحيح البخاري ( 3150 ) , صحيح مسلم ( 1062 ) واللفظ له .

(6) مع شهداء غزوة الطائف رضي الله عنهم .

(7) سنن أبي داود ( 3026 )

يُحْشَروا بمعنى يُجمَعوا ، والمراد به : جمعهم إلى الجهاد، والنفير إليه .

يُعْشَروا أي : يؤخذ عشور أموالهم صدقة .

يُجَبُّوا أصل التجبية : أن يقوم الإنسان قيام الراكع . وقيل: هو أن يضع يده على ركبتيه وهو قائم . وقيل: هو أن يَنْكَبَّ على وجهه باركا وهو السجود .

والمراد بقولهم : لا يجبُّوا أنهم لا يُصَلُّون . ولفظ الحديث يدل على الركوع ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم في الجواب : ولا خير في دِين ليس فيه ركوع .

(8) سنن أبي داود ( 3025 ) , وهو حديث صحيح كالذي قبله .

قال الخطابي : ويشبه أن يكون إنما سمح لهم بترك الجهاد والصدقة ؛ لأنهما لم يكونا بعدُ واجبين في العاجل؛ لأن الصدقة إنما تجب بالقضاء للحول، والجهاد إنما يجب بحضور العدو، فأما الصلاة فهي راتبة كل يوم وليلة ، فلم يَجُزْ أن يشترطوا تركها .

(9) المسند ( 4 / 168 ) وإسناده صحيح .